الثلاثاء، 14 أبريل 2020

نصّ تهكُمي


طوّقه بذراعيه ثم رماه إلى الخلف وهو يقول: كُن رجلاً ولا تتبع خطواتي … لم يكن مزاج جان بول سارتر جيداً في هذا اليوم ليحتمل تقليد بائعٍ متجول آخر له في أسلوب عمله، لذلك خاض معه شجاراً عابراً ..

سارتر من أنجح الباعة المتجولين في البلدة، إلا أنه يفقد أعصابه أحياناً، فهو يكره سلوك تقليد باقي الباعة له، النسخُ المتطابقة تُفقد البيع حماسة المنافسة، وتضجر الزبون ..

تابع دفع العربة حتى أبصر شيئاً لامعاً تحت أشعة الشمس، انحنى إليه وحمله، ثم مسحه بكم قميصه، احتلت بعدها وجهه ابتسامة أمل جريئة، حين أدرك أنه وجد ساعةً ذهبية بعقرب واحد، وقال في نفسه: من الجليّ أنها ساعة معطلة إلا أني بعد بيعها قد أباشر بتطوير تجارتي، لم أُولد لأكون بائعاً متجولاً بل تاجراً عريقاً …

دفع عربته متجهاً إلى زاوية الشارع، حيث كان يجلس صديقه فريدريك نيتشه أمام بسطة من الأدوات النحاسية المستعملة، أما الأخير كان يتأمل كأساً نحاسياً عتيقاً، ويقول في نفسه: هذا المعدن تجرّع منه العديدون إلا أنهم اندثروا جميعاً وبقيّ هو ينتقل من جيل إلى جيل، هكذا هي الحياة تُعيد نفسها في صور مختلفة، وتخدعنا في هذا التكرار اللانهائي.

دهم سارتر خلوة نيتشه وكان قد لوّح خلال ذلك لـ ألبرت كامو من الزاوية الأخرى لينضم إليهما، انصرف كامو عن طلبية عصير البرتقال التي يجتهد على إنهائها منذ الصباح، واتجه نحوهما ..

أخرج سارتر الساعة وقال لهما انظرا ماذا وجدت!، ساعة ذهبية، ما رأيك يا نيتشه كم تساوي، لابد أن أستثمر ثمنها في تطوير عملي، يالا القدر! طالما قلت في نفسي أنني لست بائعاً متجولاً بل تاجراً عريقاً ..

تقهقه نيتشه قائلاً: ساعتك هذه مثل ذاك الكأس النحاسي، طالما تجرّع منه العديدون إلا أنهم الآن يرقدون أسفلنا، قل لي ماذا جنوا من تلك الرغبة، رغبة الشرب بكأس نحاسي، لاشيء، لقد رحلوا إلى العدم، أما نحن نكرر رغباتهم، رغبتك في أن تكون شيئاً هي الوهم الأخير، تخلص منه يا سارتر وستكون حراً.

أبداً يا نيتشه انت عدميٌ كعادتك، قال كامو، ثم استطرد، أنا أعمل في عصر البرتقال منذ ورثة الصنعة عن أبي، ربما لا أجد فيها أيّ أهمية، إلا أنها على الأقل أفضل من أن لا أكون شيئاً البتة، حديثك عن التكرار الأبدي لا معنى له، الحياة ستبدو مضجرة وبلا أيّ معنى أثناء تكرارها لنفسها، بالرغم من هذا لا أعلم ماذا تريد منّا، لذلك نعيش هذا الصراع، توقُنا في أن نصل إلى معنى الوجود مع عدم قدرتنا على تحقيق ذلك، أما أنت يا سارتر حالمٌ بعض الشيء وهذا ما يجعلك ضعيفاً، تبذل جهداً إضافياً في البحث عن معنى لحياتك، لن تجده أبداً، لذلك برأيّ أن تحتفظ بالساعة كذكرى لا أكثر ..

غضب سارتر بعد سماعهما، ونعتهما بالضعف، ثم قال في رده على كامو، عبثيتك تلك تنفي أنّ الإنسان صنيعة أفكاره، نحن نُوجد ثم نكون ما نريد، بلا أيّ تكرار، التكرار والتقليد منهج الضعفاء …

في غضون ذلك، وبحدثٍ نادر من نوعه، كان الحلاج خارجاً من بيته باتجاه معبد البلدة، اقترب منهم لإلقاء التحية، ثم عندما علم ما يدور بينهم، سأل سارتر: هل راودك أيّ حلم غريب خلال الأسبوع الماضي؟، لابد أنّ القدر سيفصح لك عن السبب بإشارة من نوع ما، تفطّن للإشارات يا سارتر، ولا أنصحك ببيعها، إنها عطاء السماء إليك، ولقد أخطأت حينما أفصحت، لربما لن تجد مثل هكذا هبات قدريّة بعد بوحك بها ..

ليتني أمتلك قُدرتك تلك على عدم الإكتراث بالواقع يا حلاج واتباع قلبي، قال نيتشه ذلك متهكماً، فردّ الحلاج دونما أن ينظر إليه، النفس تسموا كلما تأملت يا نيتشه، أعظم المعارف تلك التي نكتسبها في خلواتنا، أنت بعدميتك لن تستطيع أن تدرك أننا في مهمة عظيمة متفرّدة، نحن هنا ليكشف لنا القدر حقائقنا …

خلال ذلك دخل ابن رشد الشارع، يحمل كيساً قماشياً، ملؤه بما استطاع من الحطب اليابس، كي يعرضه للبيع في سوق البلدة، تقدم نحوهم والفضول يدغدغ دماغه، وما إن وصل حتى أطلعه ألبرت كامو بفحوى تجمعهم، أنزل ابن رشد حمله الثقيل، ثم أمسك الساعة يتفحصها بيديه وعينيه، تبسم قائلاً، هذه ليست ساعة معطلة أيها الحمقى إنها بوصلة وهي مازالت تعمل، انظروا لازالت تشير إلى الشمال دائماً..

صمت الجميع لبرهة، ثم ضحك نيتشه ضحكاً شديداً، وقال إن أصاب رأي ابن رشد وكان هذا الشيء بوصلة تشير إلى الشمال، فلاحظوا معي، إن اتجاه معبد البلدة خاطئ، يجب أن يقابل الشرق، إلا أنه منحرف عنه، طالما قلت لكم أن تعبدكم في ذاك المعبد لا طائل منه، من منكم قد يبلغ الكاهن بتصحيح الاتجاه ..

ردّ كامو الإتجاه إن صح أو خاب لن يؤثر على طبيعة الإيمان بداخلنا، هزّ الحلاج برأسه متفقاً، في بيتي أتعبد دون أن أعطي أهمية للاتجاهات، الحالة الروحية لا تحكمها جهات، لكن سارتر بادر بجرأة وقال: لابد أن نطلع الكاهن بما وصلنا إليه، يجب تقويم اتجاه المعبد …

حمل ابن رشد كيس حطبه راحلاً وهو يقول لا أنصحكم بذلك، إن أثرنا موضوع جهة المعبد الخاطئة قد يظن الكاهن بأننا نعيب عليه عمله وننتقص من فهمه وعدم إدراكه لهذا الخطأ، وكما يعلم الجميع علاقة الكاهن برئيس البلدية جيدة، عدى صلة القربى التي تجمعهما، ولن يكون حينها من المتعذر طردنا جميعاً من البلدة، أو حجز بضاعتنا ومنعنا عن العمل المتجول ..